تُثقلنا ظروف الحياة بمتاعبها، وتتجاوز مشكلاتها حدود العراقيل الذاتية إلى التعامل مع شخصيات صعبة وعقليات متناقضة. ومع ذلك، يبقى الأمل شعلةً تضيء دروبنا، وتدفعنا جاهدين لتحقيق أهدافنا مهما كانت الصعاب.
يُنصح دائمًا بالإيجابية والصمود والنظر إلى الجانب المشرق، لكن هل هذا ينجح دائمًا؟ وهل الإيجابية تعبيرٌ عن حقيقة مشاعرنا أم قناعٌ نرتديه لإخفاء مشاعرنا الحقيقية؟
الإيجابية الحقيقية نهجٌ يركّز على تغيير نظرتنا للصعوبات، فنُحوّل الطاقة السلبية إلى إيجابية من خلال التفكير البنّاء وبناء خطط فعّالة لمواجهة التحديات بدلًا من الاستسلام.
وفي الواقع، تًساعدنا الإيجابية على تغيير السلوكيات والتفكير السلبيين إلى أنماط إيجابية تُسهل التعامل مع التحديات، فهي تُمكّننا من التفكير بوجهة نظر مفتوحة ومبتكرة، مما يُسهل اكتشاف الحلول وتحقيق الأهداف. كما تُؤثّر الإيجابية على العلاقات الشخصية والمهنية، حيث تُحسّن التواصل الفعّال وتعزز التعاون والتفاهم.
قد يكون ما سأقوله لك هنا مخالفاً عن ما تتوقع.. لنرى ذلك..
المحتويات
مفهوم الإيجابية الزائفة
أرى الكثير من الأشخاص يقعون ضحية فخ الإيجابية الزائفة. إنّ السعي الدائم وراء السعادة المصطنعة والتفاؤل المبالغ فيه يخلق قناعًا يخفي مشاعرنا الحقيقية ويُعيق قدرتنا على التعامل مع الواقع بواقعية.
سأشارككم قصة صديقة عزيزة عانت من مخاطر الإيجابية المصطنعة، لنفترض أسمها (ريم).
كانت ريم فتاةً ذكيةً وطموحةً، لكنّها واجهت العديد من التحديات في حياتها الشخصية والمهنية. بدلًا من مواجهة مشاعرها السلبية، اختارت ريم أن تتصنع الإيجابية والسعادة في جميع الأوقات.
كان سلوك ريم يُثير استغرابي في البداية، فبينما كانت تواجه صعوباتٍ جمة، كانت تُصر على إظهار ابتسامةٍ عريضةٍ والتحدث عن مشاعرها الإيجابية فقط. لم تكن تسمح لأي شخصٍ برؤية مشاعر الحزن أو الغضب أو القلق التي كانت تُخفيها خلف قناعها.
مع مرور الوقت، بدأت ريم تُعاني من أعراضٍ نفسيةٍ وجسديةٍ ناتجة عن قمع مشاعرها الحقيقية. فقد ازدادت شعورها بالقلق والتوتر، وأصبحت تعاني من الأرق وصعوبة التركيز. كما بدأت تُعاني من آلامٍ جسديةٍ دون سببٍ عضويٍ واضح.
لم نعد نرى ريم كثيرًا، حيث بدأت بالإنعزال وتحاشي الناس فلا طاقة لها بالاستمرار في الإيجابية التي تدعيها أمامهم، ولا هي قادرة على الاعتراف بما تعاني.
بحديثي معها أدركت ما تعاني، وحاولتُ مساعدتها على إدراك مخاطر الإيجابية الزائفة. شرحتُ لها أنّ مشاعرنا السلبية هي جزءٌ طبيعيٌ من الحياة، وأنّ قمعها يُعيق قدرتنا على التعامل معها بفعالية. كما نصحتها بالبحث عن مساعدةٍ نفسيةٍ لتعلم كيفية التعبير عن مشاعرها الحقيقية بطريقةٍ صحية.
الإيجابية الزائفة هي نوع من السلوك يحاول فيه المرء أن يبدو أكثر إيجابية مما هو عليه في الواقع، ويظهر في الأشخاص عندما يحاولون بشكل متعمد إظهار نمط من الإيجابية والتفاؤل بغض النظر عن الظروف الحقيقية أو المشاعر الموجودة داخلهم.
تعتبر الإيجابية المصطنعة ظاهرة اجتماعية تعكس ضغوطًا وتوقعات المجتمع على الأفراد لإبراز جانب إيجابي من شخصيتهم والتصرف بطريقة غير حقيقية وغير مرتبطة بمشاعرهم الحقيقية. قد يكون السبب وراء ذلك هو الرغبة في التأثير على ردود فعل الآخرين وكسب اعجابهم أو قبولهم، أو خوف من الانتقادات أو الرفض.
قد تحاكي هذا النوع من السلوك لإظهار صورة مثالية أمام الآخرين وتحقيق انطباع إيجابي عن الذات، ويمكن أن يكون هذا بسبب الرغبة في إرضاء الآخرين، أو تجنب المواجهة، أو مجرد محاولة التظاهر بأن كل شيء على ما يرام عندما لا يكون كذلك.
الآثار السلبية للإيجابية الزائفة
إن نشر الإيجابية سلوكٌ عظيمٌ يميز صاحبه، فهو يبث روح التفاؤل والجمال في نفوس الآخرين. لكن على المستوى الشخصي، قد يكون مرهقًا ومضرًا.
خلقنا الله بمشاعر متناقضة لحكمة، فلن ندرك قيمة السعادة دون حزن، ولا السلام دون كرب، ولا الراحة دون تعب وألم. وللمشاعر السلبية، بعيوبها، مزايا يجب أن نقبلها ونتعلم منها.
كما أن التظاهر بعدم وجود مشاعر سلبية، والتظاهر بالإيجابية وكبت النفس عن ما بداخلها يُسبب أمراضًا وسلوكيات سلبية.
ولهذا، فإن الإيجابية الزائفة لها نتائج سلبية، سأذكر لك بعضها:
عدم الصدق والشفافية
إنّ الإيجابية الزائفة عملٌ غير صادقٍ وغامض، يعطي انطباعًا زائفًا للآخرين. فمن ناحيةٍ، قد يستخدمها البعض بحسن نية، ظنًّا منهم أنّها تُحسّن من المعنويات، لكنّ هذا قد يضرّهم في نهاية المطاف.
ومن ناحيةٍ أخرى، قد تُستخدم الإيجابية المصطنعة كأداةٍ للتلاعب بمشاعر الآخرين، وللتأثير على تصورهم الحقيقي للأشخاص أو على طريقة سير الأمور.
فمثلاً، تخيّل أن تمرّ شركة بأزمةٍ حقيقيةٍ تتطلّب مواجهةً جادّةً وشفافيةً كاملةً.
فإنّ ظهور المدير بشكلٍ متفائلٍ، وتأكيده على أنّ الأمور ستكون على ما يرام، وأنّ الأزمة مجرّد مشكلةٍ صغيرةٍ ستُحلّ على الفور، كلّ هذا قد يكون بهدف طمأنة الموظفين وعدم إرباك الموقف.
لكنّ عندما تتضح فداحة الأمور وخطورة الأزمة، فإنّ الإيجابية المصطنعة لن تكون في صالح المدير.
فسيُفقد الموظفون ثقتهم به، لِما بدر منه من تظاهرٍ بأنّ الأمور على ما يرام، بينما هي ليست كذلك.
لذلك، من الضروريّ الإعتراف بالواقع على شكله الحقيقيّ، سلبياً كان أم إيجابياً.
تضخيم الأمور والمواقف
قد تؤدي الإيجابية الزائفة إلى تكبير أو مبالغة في مشاعر السعادة أو الحماسة بشكل غير واقعي. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى خلق توقعات غير واقعية وإحساس الآخرين بالضغط لتحقيق مستويات مرتفعة من الإنتاجية والتفوق.
وهذا ما يحدث كثيراً في عالمنا الافتراضي، حيثُ تُبالغ بعض الشخصيات في إظهار حياتهم المثالية، مما يشكل ضغطاً على الآخرين لإثبات عكس ما يشعرون به.
حقيقة هذا الأمر تُشعرك بالضياع وعدم الرضا أو الإكتفاء. وإذا كنت لا تسمح لنفسك بالشعور بالمشاعر السلبية بالشكل الطبيعي، فأنت تُعرّض نفسك للإصابة بالأمراض.
نشر السلبية
هل تصدق أن التظاهر بالإيجابية ينشر السلبية؟
إنّه كذلك!
فكذبة الإيجابية لا تستمر لفترة طويلة، لأن الضغط الداخلي سيخرج في يوم ما بسلوك مفاجئ يصدم الآخرين.
فمثلاً، تخيّل شخصية تُظهر سعادة دائمة مصطنعة، تخفي ما تعانيه من ضغط الحياة، وتسامح زلات الآخرين، وتغاضي عن مشكلات بتصغير حجمها، وتحملها لأعباء فوق طاقتها لإظهار أنّها “قدها وقدود” و”الجبل الذي لا تهزه الريح” تتحمل لا تتعب والابتسامة ترتسم على شفتيها كل يوم.
فجأة تنهار وتظهر تصرف سلبي قوي غير مقبول، قد يتسبب ذلك في تذمر الآخرين وفقدان الثقة، فلم يتوقع أحد منها ولم يروها من قبل بهذا المنظر.
مثل ذلك ينشر السلبية في محيطها ويعتبرون أن ما كانت تدعيه مجرد نفاق، ونعود للنتيجة الأولى: عدم الصدق والشفافية.
عدم التعامل مع المشاعر السلبية (تجاهل الألم العاطفي)
عندما يتم تجاهل أو قمع المشاعر السلبية من خلال عرض إيجابية مصطنعة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم المشاعر السلبية الداخلية، واندفاعها في وقت لاحق بطريقة غير متوقعة، ومنع النمو الشخصي وقدرة التعامل مع التحديات والمشاعر السلبية الحقيقية.
ففي حين أن الإيجابية قد تكون لها دور مؤقت في تحسين المزاج وإنشاء جو إيجابي. إلا أنها ليست طريقة مستدامة للتعامل مع العواطف والتفاعلات الاجتماعية السامة.
فمن الأفضل التعبير عن المشاعر بشكل صادق، والاعتماد على العمل الحقيقي والمشاركة البناءة مع الآخرين لتحسين العلاقات والبيئة المحيطة.
هل التصرف بإيجابية بشكل مصطنع شيء طبيعي؟
إذا كنت تعاني مع الإيجابية المصطنعة، فمن المهم أن تتذكر أنّ من الطبيعي أن تشعر بمشاعر سلبية، ومن المهم أن تسمح لنفسك بالشعور بهذه المشاعر، بدلاً من محاولة قمعها، وإذا كنت تشعر بالضياع أو عدم الرضا، فقد يكون من المفيد التحدث إلى معالج أو مستشار.
يجب الانتباه إلى أنّ الإيجابية الزائفة ليست صحية بشكل دائم، ومن الأفضل أن تكون صادقًا ونابعة من الداخل، وأن يتم التعبير عن المشاعر والعواطف بصدق والتعامل مع الصعوبات والتحديات بشكل واقعي بدلاً من إظهار إيجابية زائفة.
مواصفات الإيجابيين الزائفين
يتميز الإيجابيون المتصنعون بعدة سمات، منها:
- الابتسامة المستمرة حتى في الحالات التي قد يكون فيها الشخص غير راضٍ أو حزين.
- التحدث بلهجة مرتفعة وسرعة الإجابة بكلمات التشجيع والدعم.
- التفاؤل المفرط حتى في المواقف التي تستدعي الحذر أو الواقعية.
- إخفاء المشاعر السلبية وعدم التعبير عنها بشكل صريح.
- التقليل من شأن مشاعر الآخرين وعدم إظهار التعاطف معهم.
- التباهي بالإنجازات بشكل مبالغ والتركيز على الجانب الإيجابي فقط من الحياة.
- إعطاء النصائح بشكل متكرر دون طلبها من الآخرين.
- التصرف بشكل مثالي وكأنهم لا يواجهون أي صعوبات في حياتهم.
وغالبًا ما تظهر هذه السلوكيات في الأماكن الاجتماعية مثل العمل، أو عند لقاء الأصدقاء، أو في الأحداث الاجتماعية العامة. وعند التواصل عبر الإنترنت، حيث يسهل إخفاء المشاعر الحقيقية خلف شاشة الهاتف أو الكمبيوتر.
من المهم أن ندرك أنّ الإيجابية الزائفة ليست سلوكًا صحيًا، وأنّ التعبير عن المشاعر بشكل صادق والتعامل مع الصعوبات والتحديات بشكل واقعي هو أفضل طريقة للحفاظ على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية.
كيفية التغلب على الإيجابية الزائفة؟
إن الانغماس في الإيجابية بشكل زائد ودون توازن كتوهم للسعادة أو خداع للذات عواقبه غير مرضية. إذا لم نكن نتعامل بشكل واقعي مع مشاعرنا وتحدياتنا، قد يؤدي ذلك إلى تجاهل الألم العاطفي وعدم التعبير عنه بشكل صحيح، مما يؤثر على صحتنا العقلية والعاطفية على المدى الطويل.
بدلاً من ذلك، ينبغي أن نسعى لتحقيق توازن بين الإيجابية والواقعية. يمكن أن تساعدنا الإيجابية في التعامل بشكل أفضل مع التحديات والصعوبات، ولكن يجب علينا أيضًا السماح لأنفسنا بالشعور بالحزن والغضب والقلق عند الضرورة. التوازن بين الإيجابية والواقعية يساعدنا على بناء علاقة صحية مع أنفسنا ومع الآخرين ويعزز النمو الشخصي والاستقرار العاطفي.
تحقيق التوازن بين الإيجابية والواقعية يتطلب بعض الجهد والممارسة اليومية. إليك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لتحقيق هذا التوازن:
- التعرف على المشاعر: كن واعيا لمشاعرك ولا تتجاهل الأحاسيس السلبية. اعترفوا بها واقبلوها بدون حكم.
- التعبير عن المشاعر: حاول التعبير عن مشاعرك بطريقة صحية، سواء كان ذلك من خلال الكتابة، التحدث مع شخص مقرب، أو اللجوء إلى الفنون التعبيرية مثل الرسم أو الرقص.
- الممارسات اليومية للرعاية الذاتية: قدم العناية الذاتية لنفسك بانتظام، مثل ممارسة التأمل والرياضة أو أي نشاط يساعد في الاسترخاء وتهدئة العقل.
- تحديد التوقعات بشكل واقعي: كن واقعياً فيما يتعلق بتوقعات وتوقعات الآخرين، ولا تضع ضغطًا غير ضروري على نفسك لتحقيق الكمال.
- التواصل الفعال: تواصل مع الأصدقاء والعائلة بشكل منتظم وحاول بناء علاقات صحية وداعمة.
- ممارسة الامتنان: قم بتقدير الأشياء الإيجابية في حياتك وكتابتها يوميًا، حتى لو كانت بسيطة.
المحافظة على التوازن بين العمل والحياة الشخصية: حاول تخصيص وقت منتظم للراحة والاسترخاء خارج بيئة العمل. - تطوير مهارات التحكم بالتفكير: تعلم كيفية التحكم في التفكير السلبي وتغييره إلى نمط تفكير إيجابي بناء تستخدمه كوقود يدفعك للعمل.
الخلاصة
الإيجابية قد تكون استراتيجية مؤقتة للتعامل مع بعض الظروف الحياتية ومشكلاتها، لكنها ليست الطريقة الأمثل لبناء العلاقات الناجحة والمشاركة في تجارب حياة مفرحة وممتعة. وتذكر أن الإيجابية الحقيقية تأتي من الداخل، وتُبنى على أساسٍ من القبول الذاتي والتعاطف مع النفس. لا تُجبر نفسك على التظاهر بالسعادة، بل اِسْعَ إلى عيش حياةٍ حقيقيةٍ مليئةٍ بالمشاعر الصادقة.